الكرم من الأخلاق العريقة التي ألفها منذ الأزل أصحاب النفوس العظيمة، فأكدوها في تعاملاتهم ومدحوا بها ساداتهم، وجعلوها دليل الرفعة والفخار، وغاية المجد لما فيها من الإيثار وعلو الهمم والأقدار، وكانت عندهم نقيض اللؤم والشنار، وفي فقدها كل مذمة وعار، فالكرم عادة السادات وشيمة الأحرار، وعادة السادات سادات العادات، وشيمة الأحرار أحرار الشيم.
قال أحد الحكماء: أصل المحاسن كلها «الكرم» وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام، وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير من فروعه.
ولقد كانت الشجاعة والكرم من أبرز صفات المجتمع العربي الجاهلي، وظهر منهم في كل عصر ومصر أقطاب اشتهرت بالكرم، وروى عنهم مواقف عظيمة في الجود والسخاء، وكان من أبرزهم وأشهرهم (حاتم الطائي) الذي كان مضرب المثل فيهم بالكرم.
ومما يؤثر عنه في ذلك ما ذكره التنوخي في المستجاد قال: إن رجلاً سأل حاتماً الطائي، فقال: يا حاتم، هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم، غلام يتيم، وذلك أنى نزلت بفنائه، وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس فذبحه وأصلح لحمه وقدمه إلى، وكان فيما قدم الدماغ، فقلت: طيب والله، فخرج من بين يدي، وجعل يذبح رأساً بعد رأس، ويقدم الدماغ، وأنا لا أعلم، فلما رجعت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً، فإذا هو قد ذبح الغنم بأسرها، فقلت له: لم فعلت ذلك؟ قال: يا سبحان الله، تستطيب شيئاً أملكه وأبخل عليك به، إن ذلك لسبه على العرب قبيحة، فقيل: يا حاتم، فبماذا عوضته؟ قال: بثلثمائة ناقة حمراء، وبخمسمائة رأس من الغنم، فقيل: أنت أكرم منه، قال: هيهات، بل هو والله أكرم، لأنه جاد بكل ما ملك، وأنا جدت بقليل من كثير.
ومن الأجواد المشاهير في الجاهلية أيضاً (عبد الله بن جدعان) وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره، ووقع فيها صغير فغرق، وذكر ابن قتيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمَىِّ)) أي وقت الظهيرة.
وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقى اللبن حتى سمع قول أميه بن أبى الصلت:
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم **** فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم *** لاما يعللنا بنو جدعان
فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير تحمل البر والشهد والسمن، وجعل منادياً ينادى كل ليله على ظهر الكعبة: أن هلموا إلى جفنه ابن جدعان، فقال أميه في ذلك:
له داع بمكة مشمعل *** وآخر فوق كعبتها ينادى
إلى روح من الشيزى ملاء *** لباب البر يلبك بالشهاد
ولقد أحب العرب الكرم، واتخذوا له رموزاً وإشارات، فكانت تسمى الكلب داعي الضمير ومتمم النعم ومشيد الذكر لما يجلب من الأضياف بنباحه، وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح لم تشب النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي وربطوها إلى العتمة لتستوحش فتنبح فتهدى الضلال وتأتى الأضياف على نباحها.
ولقد كان الكرم العربي له عدة دوافع وأسباب نستطيع أن نوجزها في النقاط الآتية:
أولاً: طبيعة الحياة الجغرافية:
فلقد كانت البيئة العربية صحراء قاحلة، وكان سكانها من البدو في ترحال مستمر، فراراً من الجدب وبحثاً عن موارد المياه والكلأ.
تلك البيئة جعلت العربي يدرك قيمة قرى الضيف وإعانة المحتاج ونصرة المظلوم وغيرها من القيم النبيلة، فكان يتشبث بهذه القيم حتى تعم وتنتشر ويعود إليه في النهاية خيرها ويشمله أثرها.
ثانياً: طبيعة الحياة الاجتماعية:
حيث انتشرت في البيئة العربية صفة حب الفخر والتباهي بخصال الكرم والسخاء، وفعل الآباء والأجداد، فأحب العربي أن يرتبط ذكره بما أحبه الناس من تلك الخلال، وكان الكرم أكثرها تأثيراً في النفوس. كما كان للحرب والنزاعات المستمرة بين القبائل دوراً في انتشار الكرم وحرص العرب عليه، حيث كان من آثار الحروب انتشار الفقر والبؤس في البلاد، فقل الغذاء وعز الطعام، فأحسوا بالجوع ينبش أنيابه بين أحشائهم، ويكاد يفتك بهم، وبخاصة إذا كانوا مسافرين أو عابري سبيل، فقدروا معنى الإنسانية الحقيقية، بتقديم ما يحفظ على الإنسان حياته أو يسد رمقه أو يروى غلته، ولذلك عظموا الكرم وإطعام الطعام، ووصفوا بالكرم عظماء القوم، وكان الكرم في مقدمه الفضائل التي يحب العربي أن يتحلى بها.
وخلاصة القول أن الكرم، وإن شاع في المجتمع العربي القديم قبيل الإسلام، إلا أنه ارتبط بمنافع دنيوية وغايات نفعيه ومطامع ومكاسب مادية، ليس الدين أو التدين واحداً منها، لكن مع بزوغ شمس الإسلام احتلت القيم الإنسانية مكانة هامة في نظامه وهيكله، واختلف الأمر بالنسبة للمسلم، فلقد تعلق برب رحيم يرضيه مكارم الأخلاق، ويغضبه كل دنيئة، واتضحت رسالة الإنسان الحقيقية على الأرض - ألا وهى عبادة رب العالمين - ثم حساب ثم إلى جنه أو إلى نار، وكانت هذه القيم الإنسانية أحد الأركان الأساسية التي بها تقوم بها العبادة، والتي بها ينجو المسلم من نار تلظى، إلى جنه عرضها السماوات والأرض أعدها الله للمتقين.
كان الكرم أحد هذه القيم النبيلة التي اهتم بها الإسلام، وأمر بها، فلقد عرف الله - سبحانه وتعالى - نفسه لعبادة بأن الكرم اسم من أسمائه - تعالى - (الكريم)، وصفه من صفاته - عز وجل -، لأنه هو الذي انفرد بالملك والغنى، وتوحد بالعظمة والثناء والسنا، واختص بالجاه والسلطان، فهو إذا عصى غفر، وإذا اطلع أمهل وستر، وإذا وعد وفي، وإذا أوعد عفا، لا يضيع من لجأ إليه، ولا يثلم من توكل عليه، يداه مبسوطتان بالخيرات، وله خزائن الأرض والسماوات، لا ينازع في قسمة رزقه، ولا يراجع في تدبير خلقه، فهو الكريم بالإطلاق، وكما أنه الكريم نادى عبادة بحب الكرم، وبذل المال رضاء وجه وابتغاء مرضاته، ونهاهم عن الشح والبخل.
قال - تعالى -:
- (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنه عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)[آل عمران: 133-134]
- (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور)[فاطر: 67].
- (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) [آل عمران: 92].
- (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبه أنبتت سبع سنابل في كل سنبله مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم)[البقرة: 261].
- (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنت لا تظلمون)[البقرة: 272].
- (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)[الليل: 5-10].
كما تعددت الأحاديث النبوية لهذه الأمة تدعوا المسلمين للبذل والسخاء وتبين لهم أنه طريق من طرق النجاة.
- فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - تعالى - جواد يجب الجود ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها)) [الترمذي].
- وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً))[البخاري].
- وعن أبى ذر -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده))[أحمد].
- وعن على -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة غرفاً يرى بطونها من ظهورها وظهورها من بطونها)) فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((هي لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام))[الترمذي].
- وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان))[مسلم].
- ((لا يجتمع شح وإيمان في قلب عبد أبداً)) [صحيح الجامع: 7616].
- ((شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع)) [أبو داود] وفي حديث آخر: ((اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم))[مسلم].
كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم قدوة عملية للمسلمين في هذا الشأن فعن جوده وكرمه حدث ولا حرج:
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: ما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قط، فقال: لا[رواه البخاري في الأدب].
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس[رواه البخاري].
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليله في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود من الريح المرسلة[البخاري].
وأتاه -رضي الله عنه- رجلا فسأله، فأعطاه غنماً سدت ما بين جبلين، فرجع إلى قومه، وقال: أسلموا، فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفقر.
http://www.islamlight.net