لمحة بلاغية في قميص يوسف -عليه السلام-
-وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً
-وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ26 وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ27
-اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ93
هي أقمصة ثلاثة :
قميص ادعاء، فقميص براء، ثم قميص دواء.
1-قميص/ ادعاء:
القميص هنا وعاء، فهم ما جاؤوا" بقميص فيه دم كذب" بل جاؤوا "بدم كذب على القميص".. فيتأسس من التركيب أن يكون الدم الكاذب هو بؤرة الاهتمام ،و ليس القميص الذي يشغل موقع الظرف فقط..-ومعلوم أن المفعولية تربو على الظرفية كرتبة العمدة في مقابل الفضلة-
ولعل اهتمام الإخوة بالدم باعتباره محل الشاهد كان وراء ذهولهم عن القميص، فلم يؤهلوه للاستدلال- بتمزيقه مثلا-حتى أن يعقوب –عليه السلام-كان يرى أثر الدم، ولا يرى فيه خَرْقًا ، ويقول: يا بني ما كنت أعهدُ الذئب حليمًا؟-حسب ما تناقله المفسرون-
ويستفاد من المقام أن اختلاق الأدلة بصورة تامة غير ممكن، لصعوبة في إحاطة بكل التفاصيل، وانتباه إلى كل اللوازم...ومن ثم اشتهر عند كتاب الرواية البوليسية أن الجريمة المتقنة لا تكاد توجد.
2- قميص /دواء
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا..
جاء تأخير الإشارة حاملا لمعنى التعريض الخفي...وهو مما لا يستشف لو قدم الإشارة أو ألغاها:
-اذهبوا بهذا القميص
-اذهبوا بقميصي
وتقدير التعريض -مثلا -:"اذهبوا بقميصي هذا، وليس ذلكم القميص الذي جئتم أباكم به من قبل!"
3- قميص/ براء..
استدلال "الشاهد من أهلها "بالقميص في غاية الحصافة العلمية و الذوق الإجتماعي:
أ-طرح النظرية مجردة أولا ثم التحاكم إليها ثانيا:
النظرية:
إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ26 وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ27
التطبيق:
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يوسف28
والاستدلال على هذا النحو أبعد عن الباطل ..لأن المرء يكون قد قرر في حياد تام قاعدة معينة، فيكون رهينا بها، قاضيا على نفسه بقبول نتيجة الاختبارأيا كانت ...
على العكس ما لو تفحص الواقعة التجريبية أولا لأنه لا يؤمن أن تخترع النظرية لتمرير الواقعة أو زخرفتها..
فكان من حصافة هذا الشاهد –وهو من أهل المرأة- أن قرر القاعدة قبل تفحص القميص قياما بحق النزاهة والحياد.
ب-هذا الشاهد قام أيضا بحق "الإتيكيت" الاجتماعي و"العرف" الارستوقراطي..فهو عندما استعرض الحالين الممكنتين بدأ وفق مقولة "النساء أولا"
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ..
فبدأ باحتمال صدقها وأخر فرضية صدق غريمها...وفي هذا جبر شكلي لخاطر المرأة باعتبارها أنثى أولا ومن أهله ثانية.
هذه ثلاث وظائف مختلفة للقميص في قصة يوسف...ولنا أن نلاحظ أيضا بديع التقابل فيها:
أولا:
التقابل بين حالي القميص من جهة الاستدلال:
القميص في سياق اختلاق الدليل وتزييف الوقائع" وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ"
القميص في سياق الدليل الصادق الحق..الذي يجلي الواقع كما هو لا كما يظهر..فكل الملابسات من شأنها أن تورط يوسف عليه السلام لولا ذلك القميص.
ثانيا:
التقابل في الآثار النفسية للقميص :
قميص يأتي بالأحزان
وقميص ينهيها..منقول